على هامش الدورة 41 لآلية الاستعراض الدوري الشامل للملف التونسي في مجلس حقوق الإنسان في جنيف

في قلب مدينة جنيف السويسرية، حيث تجتمع أصوات العالم للدفاع عن حقوق الإنسان، شهدت الدورة 41 لآلية الاستعراض الدوري الشامل (UPR) نقاشًا محوريًا حول الملف التونسي. هذا الحدث لم يكن مجرد محطة رسمية بل كان مناسبة هامة ألقت الضوء على التحديات التي تواجهها تونس في مجال حقوق الإنسان، وفرصة حقيقية لإعادة تقييم المسار الحقوقي في البلاد بعد أكثر من عقد من التحولات السياسية والاجتماعية.

في هذا المقال، سنقدم تحليلًا شاملاً لما جرى على هامش هذه الدورة، وسنغوص في خلفيات الملف التونسي، ونسلط الضوء على أبرز التوصيات، ردود أفعال المجتمع الدولي، مواقف منظمات المجتمع المدني، إضافة إلى التطلعات المستقبلية للواقع الحقوقي في تونس.

ما هي آلية الاستعراض الدوري الشامل (UPR)؟

آلية الاستعراض الدوري الشامل هي آلية فريدة تابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تهدف إلى مراجعة سجل حقوق الإنسان في جميع الدول الأعضاء بشكل دوري. تعتمد الآلية على تقديم تقارير من ثلاث جهات رئيسية:

1. الدولة المعنية نفسها

2. منظمات المجتمع المدني والجهات الفاعلة المحلية والدولية

3. تقارير الأمم المتحدة الأخرى

هذا التقييم الدوري يتم كل أربع سنوات ونصف، ويهدف إلى ضمان التزامات الدول تجاه الاتفاقيات الدولية، ومساعدتها في تحسين أوضاع حقوق الإنسان على أرضها.

تونس وUPR: نبذة عن المشاركات السابقة:

تونس ليست جديدة على هذه الآلية، حيث شاركت في عدة دورات سابقة، كان أولها في عام 2008. لكن المميز في هذه الدورة (41) هو السياق السياسي والاجتماعي الحساس الذي تمر به البلاد، خاصة منذ تفعيل الإجراءات الاستثنائية في يوليو 2021، مما أثر على مسار المؤسسات الديمقراطية.

أبرز النقاط المطروحة في الملف التونسي:

خلال الجلسات المنعقدة في جنيف، تمت مناقشة العديد من القضايا التي تهم الوضع الحقوقي في تونس، ومن أهمها:

• استقلالية القضاء

• حرية التعبير وحرية الصحافة

• أوضاع السجون والمعاملة اللاإنسانية

• قوانين مكافحة الإرهاب ومدى التزامها بالمعايير الدولية

• حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين

• حقوق الأقليات وحرية المعتقد

مواقف المجتمع الدولي تجاه الملف التونسي:

العديد من الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان قدمت ملاحظاتها وتوصياتها بشأن تونس، وكان هناك إجماع واضح على ضرورة:

• احترام سيادة القانون

• ضمان فصل السلطات

• حماية الصحفيين والنشطاء

• مراجعة القوانين التي قد تقيد الحريات العامة والفردية

بعض الدول أثنت على الجهود التي تبذلها تونس في مجالات مثل مكافحة العنف ضد النساء، بينما شددت أخرى على ضرورة إصلاح المنظومة الأمنية والقضائية بما يتماشى مع المواثيق الدولية.

رد تونس الرسمي: خطاب التوازن والواقعية:

الوفد التونسي حاول أن يقدم صورة متوازنة وواقعية، حيث أشار إلى التقدم الذي تحقق في بعض المجالات، لكنه لم يُنكر وجود تحديات كبيرة. وأكد على أن الإصلاحات الجارية تهدف إلى بناء مؤسسات قوية ومستقلة، بما يعزز دولة القانون والعدالة.

كما شدد الوفد على أن مكافحة الفساد هي أولوية وطنية، وأن الإجراءات الاستثنائية كانت ضرورة لحماية الدولة من الانهيار.

دور منظمات المجتمع المدني: صوت الضمير الموازي:

على هامش الدورة، نظمت عدة منظمات تونسية ودولية فعاليات جانبية موازية لطرح وجهات نظر مختلفة حول الوضع الحقوقي. وتركزت مداخلاتهم حول:

• حالات التوقيف التعسفي

• محاكمات المدنيين أمام المحاكم العسكرية

• تراجع مساحة الحريات

• غياب التشاور المجتمعي في صياغة السياسات

كما قدموا تقارير توثيقية مدعّمة بالإحصائيات والشهادات، مما عزز النقاش الموضوعي في جلسات الاستعراض.

التوصيات المقدمة إلى تونس: خارطة طريق حقوقية:

خرجت الدورة بـ ما يزيد عن 280 توصية تم تقديمها لتونس، من بينها:

• الإفراج عن المحتجزين لأسباب تتعلق بحرية الرأي

• وقف إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري

• إصلاح القوانين المتعلقة بالإعلام والتعبير

• تعزيز دور المجتمع المدني في صياغة السياسات العامة

• ضمان حقوق الإنسان في مكافحة الإرهاب

والجدير بالذكر أن السلطات التونسية أمامها مهلة حتى الدورة المقبلة لتقديم ردود فعلها على التوصيات، وتوضيح مدى نيتها في قبولها أو رفضها.

التحديات التي تواجه تونس في تفعيل التوصيات:

رغم أهمية التوصيات، إلا أن التطبيق الفعلي لها يواجه عراقيل واقعية، من أبرزها:

• الوضع الاقتصادي الصعب الذي يؤثر على تمويل الإصلاحات

• ضعف الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة

• الاستقطاب السياسي الحاد

• صعوبة المواءمة بين الأمن والحرية

ومع ذلك، تبقى الإرادة السياسية والعزيمة المجتمعية هي مفتاح النجاح في تجاوز هذه التحديات.

لماذا يعتبر هذا الحدث مفصليًا في مسار تونس الحقوقي؟

لأن الدورة 41 تمثل مرآة حقيقية لواقع الحقوق والحريات في تونس، وهي ليست فقط تقييمًا خارجيًا، بل أداة وطنية للتصحيح الذاتي. كما أن انخراط منظمات المجتمع المدني ومشاركة دولية واسعة يعطي لهذه الدورة وزنًا معنويًا ومؤسساتيًا كبيرًا.

كيف يمكن للمواطن التونسي أن يستفيد من مخرجات هذه الدورة؟

من المهم أن يعرف المواطن أن:

• التوصيات ليست ملزمة قانونيًا، لكنها أخلاقيًا وسياسيًا مؤثرة

• مخرجات الدورة يمكن أن تُستخدم كأداة ضغط ومناصرة

• الشفافية والمشاركة المجتمعية ضرورية لمتابعة مدى تنفيذ التوصيات

• الإعلام الحر يجب أن يواكب وينقل تطورات الملف بموضوعية

ما الدور المنتظر من الإعلام التونسي؟

على الإعلام أن يكون:

• مراقبًا يقظًا

• حلقة وصل بين المؤسسات والمواطن

• منبرًا للمساءلة والنقاش العام

• راصدًا لأي انتهاكات أو تقدم ملموس

بهذا الشكل، يمكن أن يسهم الإعلام في تأصيل ثقافة حقوق الإنسان وتعزيز مبدأ الشفافية.

 تونس بين التحدي والفرصة:

الاستعراض الدوري الشامل ليس مجرد بروتوكول أممي، بل هو فرصة لتونس لإعادة بناء تعاقد اجتماعي جديد يقوم على العدالة، الكرامة، والمواطنة. ورغم أن الطريق لا يخلو من الصعوبات، فإن وضوح الرؤية وتكاتف الجميع — حكومة، مجتمع مدني، إعلام، ومواطنون — هو السبيل لتحقيق واقع حقوقي أفضل.

تونس اليوم ليست فقط تحت مجهر العالم، بل أمام مسؤولية تاريخية تجاه نفسها أولًا. فإما أن تُستثمر التوصيات كمحرّك إصلاح حقيقي، أو أن تبقى حبرًا على ورق.

“حقوق الإنسان ليست رفاهًا، بل ضرورة وطنية”